فصل: تفسير الآية رقم (7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

عطف هذا الكلام على تحذيره من قصّ الرؤيا على إخوته إعلاماً له بعلوّ قدره ومستقبل كماله، كي يزيد تملياً من سموّ الأخلاق فيتسع صدره لاحتمال أذى إخوته، وصفحاً عن غيرتهم منه وحسدهم إيّاه ليتمحّض تحذيره للصلاح، وتنتفي عنه مفسدة إثارة البغضاء ونحوها، حكمة نبويّة عظيمة وطبّاً روحانيّاً ناجعاً‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ إلى ما دلّت عليه الرؤيا من العِناية الربّانيّة به، أي ومثل ذلك الاجتباء يجتبيك ربّك في المستقبل، والتّشبيه هنا تشبيه تعليل لأنّه تشبيه أحد المعلولين بالآخر لاتّحاد العلّة‏.‏ وموقع الجار والمجرور موقع المفعول المطلق ل ‏{‏يجتبيك‏}‏ المبيّن لنوع الاجتباء ووجهه‏.‏

والاجتباء‏:‏ الاختيار والاصطفاء‏.‏ وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجتبيناهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏87‏)‏، أي اختياره من بين إخوته، أو من بين كثير من خلقه‏.‏ وقد علم يعقوب عليه السّلام ذلك بتعبير الرؤيا ودلالتها على رفعة شأنه في المستقبل فتلك إذا ضُمّت إلى ما هو عليه من الفضائل آلت إلى اجتباء الله إياه، وذلك يؤذن بنبوءته‏.‏ وإنّما علم يعقوب عليه السّلام أنّ رفعة يوسف عليه السّلام في مستقبله رفعة إلهية لأنّه عَلِمَ أن نعم الله تعالى متناسبة فلمّا كان ما ابتدأه به من النعم اجتباءً وكمالاً نفسيّاً تعيّن أن يكون ما يلحق بها، من نوعها‏.‏

ثم إنّ ذلك الارتقاء النفساني الذي هو من الواردات الإلهية غايته أن يبلغ بصاحبه إلى النبوءة أو الحكمة فلذلك علم يعقوب عليه السّلام أنّ الله سيعلّم يوسف عليه السّلام من تأويل الأحاديث، لأنّ مسَبّبَ الشيء مسبّب عن سَبب ذلك الشيء، فتعليم التّأويل ناشئ عن التشبيه الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏، ولأنّ اهتمام يوسف عليه السّلام برؤياه وعرضها على أبيه دلّ أباه على أنّ الله أودع في نفس يوسف عليه السّلام الاعتناء بتأويل الرؤيا وتعبيرها‏.‏ وهذه آية عبرة بحال يعقوب عليه السّلام مع ابنه إذ أشعره بما توسّمه من عناية الله به ليزداد إقبالاً على الكمال بقوله‏:‏ ‏{‏ويتمّ نعمته عليك‏}‏‏.‏

والتّأويل‏:‏ إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلاّ الله‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏

والأحاديث‏}‏‏:‏ يصحّ أن يكون جمع حديث بمعنى الشيء الحادث، فتأويل الأحاديث‏:‏ إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام‏.‏ وهو المعنى بالحكمة، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته، ويصحّ أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدّث به، فالتأويل‏:‏ تعبير الرؤيا‏.‏ سمّيت أحاديث لأنّ المرائيَ يتحدثُ بها الراؤون وعلى هذا المعنى حملها بعضُ المفسرين‏.‏ واستدلوا بقوله في آخر القصة ‏{‏وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل‏}‏

‏[‏سورة يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏ ولعلّ كِلاَ المعنيين مراد بناء على صحة استعمال المشترك في معنييه وهو الأصح، أو يكون اختيار هذا اللفظ إيجازاً معجزاً، إذ يكون قد حكِي به كلام طويل صَدر من يعقوب عليه السّلام بلغته يعبّر عن تأويل الأشياء بجميع تلك المعاني‏.‏

وإتمام النعمة عليه هو إعطاؤه أفضل النعم وهي نعمة النبوءة، أو هو ضميمة الملك إلى النبوءة والرسالة، فيكون المراد إتمام نعمة الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي‏.‏

وعلم يعقوب عليه السّلام ذلك من دلالة الرؤيا على سجود الكواكب والنيريْن له، وقد علم يعقوب عليه السّلام تأويل تلك بإخوته وأبويه أو زوج أبيه وهي خالة يوسف عليه السّلام، وعلم من تمثيلهم في الرؤيا أنّهم حين يسجدون له يَكون أخوته قد نالوا النبوءة، وبذلك علم أيضاً أنّ الله يتمّ نعمته على إخوته وعلى زوج يعقوب عليه السّلام بالصديقية إذا كانت زوجة نبيء‏.‏ فالمراد من آل يعقوب خاصتهم وهم أنباؤه وزوجه، وإن كان المراد بإتمام النعمة ليوسف عليه السّلام إعطاءُ الملك فإتمامها على آل يعقوب هو أن زادهم على ما أعطاهم من الفضل نعمة قرابة المَلِك، فيصح حينئذٍ أنْ يكون المراد من آله جميع قرابته‏.‏

والتّشبيه في قوله‏:‏ كما أتمها على أبويك من قبل‏}‏ تذكير له بنعم سابقة، وليس ممّا دلت عليه الرؤيا‏.‏ ثم إن كان المراد من إتمام النعمة النبوءة فالتّشبيه تام، وإن كان المراد من إتمام النعمة الملك فالتشبيه في إتمام النعمة على الإطلاق‏.‏

وجعل إبراهيم وإسحاق عليهما السّلام أبوين له لأنّ لهما ولادة عليه، فهما أبواه الأعليان بقرينة المقام كقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنا ابنُ عبد المطّلب»‏.‏

وجملة ‏{‏إنّ ربّك عليم حكيم‏}‏ تذييل بتمجيد هذه النعم، وأنها كائنة على وفق علمه وحكمته، فعلمه هو علمه بالنفوس الصالحة لهذه الفضائل، لأنّه خلقها لقبول ذلك فعلمه بها سابق، وحكمته وضع النعم في مواضعها المناسبة‏.‏

وتصدير الجملة ب ‏{‏إنّ‏}‏ للاهتمام لا للتّأكيد إذْ لاَ يشك يوسف عليه السّلام في علم الله وحكمته‏.‏ والاهتمام ذريعة إلى إفادة التعليل‏.‏ والتفريع في ذلك تعريض بالثناء على يوسف عليه السّلام وتأهّله لمثل تلك الفضائل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

جملة ابتدائية، وهي مبدأ القصص المقصود، إذ كان ما قبله كالمقدمة له المنبئة بنباهة شأن صاحب القصة، فليس هو من الحوادث التي لحقت يوسف عليه السّلام ولهذا كان أسلوب هذه الجملة كأسلوب القصص، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منّا‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 8‏]‏ نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ يوحَى إليّ إلاّ أنّما أنا نذيرٌ مبينٌ إذ قال ربك للملائكة إنّي خالقٌ بشراً من طينٍ‏}‏ ‏[‏سورة ص‏:‏ 70، 71‏]‏ إلى آخر القصة‏.‏

والظرفية المستفاد من في‏}‏ ظرفية مجازية بتشبيه مقارنة الدليل للمدلول بمقارنة المظروف للظرف، أي لقد كان شأن يوسف عليه السّلام وإخوته مقارناً لدلائل عظيمة من العبر والمواعظ، والتعريف بعظيم صنع الله تعالى وتقديره‏.‏

والآيات‏:‏ الدلائل على ما تتطلب معرفته من الأمور الخفية‏.‏

والآيات حقيقة في آيات الطريق، وهي علامات يجعلونها في المفاوز تكون بادية لا تغمرها الرمال لتكون مرشدة للسائرين، ثم أطلقت على حجج الصدق، وأدلة المعلومات الدقيقة‏.‏ وجمع الآيات هنا مراعى فيه تعدّدها وتعدّد أنواعها، ففي قصة يوسف عليه السّلام دلائل على ما للصّبر وحسن الطويّة من عواقب الخير والنصر، أو على ما للحسد والإضرار بالنّاس من الخيبة والاندحار والهبوط‏.‏

وفيها من الدلائل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ القرآن وحي من الله، إذ جاء في هذه السورة ما لا يعلمه إلاّ أحْبار أهل الكتاب دون قراءة ولا كتاب وذلك من المعجزات‏.‏

وفي بلاغة نظمها وفصاحتها من الإعجاز ما هو دليل على أنّ هذا الكلام من صنع الله ألقاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معجزة له على قومه أهل الفصاحة والبلاغة‏.‏

والسائلون‏:‏ مراد منهم مَن يُتوقع منه السؤال عن المواعظ والحكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في أربعة أياممٍ سواءً للسائلين‏}‏ ‏[‏سورة فصلت‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ومثل هذا يستعمل في كلام العرب للتشويق، والحثّ على تطلب الخبر والقصة‏.‏ قال طرفة‏:‏

سائلوا عنّا الذي يعرفنا *** بقوانا يوم تحلاق اللمم

وقال السموءل أو عبد الملك الحارثي‏:‏

سَلي إن جهلت الناسَ عنّا وعنهم *** فليس سواءً عالمٌ وجهول

وقال عامر بن الطفيل‏:‏

طُلّقتتِ إن لم تَسْألي أيُّ فارس *** حَليلك إذ لاَقَى صُداءً وخَثعما

وقال أنيف بن زبان النبهاني‏:‏

فلمّا التقينا بين السّيف بيننا *** لسائلة عنا حَفي سؤالها

وأكثر استعمال ذلك في كلامهم يكون توجيهه إلى ضمير الأنثى، لأنّ النساء يُعنين بالسؤال عن الأخبار التي يتحدث الناس بها، ولمّا جاء القرآن وكانت أخباره التي يشوق إلى معرفتها أخبارَ علم وحكمة صُرف ذلك الاستعمال عن التوجيه إلى ضمير النسوة، ووجّه إلى ضمير المذكّر كما في قوله‏:‏ ‏{‏سَأل سائلٌ بعذاببٍ واقعٍ‏}‏ ‏[‏سورة المعارج‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عَمّ يتساءلون‏}‏ ‏[‏سورة النبأ‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقيل المراد ب ‏(‏السائلين‏)‏ اليهود إذ سأل فريق منهم النبي عن ذلك‏.‏ وهذا لا يستقيم لأنّ السورة مكيّة ولم يكن لليهود مخالطة للمسلمين بمكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إذْ‏}‏ ظرف متعلق ب ‏(‏كَان‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏لقد كَان في يوسف وإخوته آيات للسائلين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 7‏]‏، فإنّ ذلك الزمان موقع من مواقع الآيات فإن في قولهم ذلك حينئذٍ عبرة من عبر الأخلاق التي تنشأ من حسد الإخوة والأقرباء، وعبرة من المجازفة في تغليطهم أباهم، واستخفافهم برأيه غروراً منهم، وغفلة عن مراتب موجبات ميل الأب إلى بعض أبنائه‏.‏ وتلك الآيات قائمة في الحكاية عن ذلك الزمن‏.‏

وهذا القول المحكي عنهم قول تآمر وتحاور‏.‏

وافتتاحُ المقول بلام الابتداء المفيدة للتّوكيد لقصد تحقيق الخبر‏.‏ والمراد‏:‏ توكيد لازم الخبر إذ لم يكن فيهم من يشك في أنّ يوسف عليه السّلام وأخاه أحبّ إلى أبيهم من بقيّتهم ولكنّهم لم يكونوا سواء في الحسد لهما والغيرة من تفضيل أبيهم إيّاهما على بقيتهم، فأراد بعضهم إقناع بعض بذلك ليتمالؤوا على الكيد ليوسف عليه السّلام وأخيه، كما سيأتي عند قوله‏:‏ ونحن عصبة‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 10‏]‏؛ فقائل الكلام بعض إخوته، أي جماعة منهم بقرينة قوله بعد ‏{‏اقتلوا يوسف‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 9‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وأخو يوسف عليه السّلام أريد به ‏(‏بنيامين‏)‏ وإنّما خصّوه بالأخوة لأنّه كان شقيقه، أمهما ‏(‏راحيل‏)‏ بنت ‏(‏لابان‏)‏، وكان بقية إخوته إخوة للأب، أمُّ بعضهم ‏(‏ليئة‏)‏ بنت ‏(‏لابان‏)‏، وأمّ بعضهم ‏(‏بلهة‏)‏ جارية ‏(‏ليئة‏)‏ وهبتْها ‏(‏ليئة‏)‏ لزوجها يعقوب عليه السّلام‏.‏

وأحب‏}‏ اسم تفضيل، وأفعل التفضيل يتعدّى إلى المفضّل ب ‏(‏من‏)‏، ويتعدّى إلى المفضّل عنده ب ‏(‏إلى‏)‏‏.‏

ودعواهم أنّ يوسف عليه السّلام وأخاه أحبّ إلى يعقوب عليه السّلام منهم يجوز أن تكون دعوى باطلة أثار اعتقادها في نفوسهم شدّةُ الغيرة من أفضليّة يوسف عليه السّلام وأخيه عليهم في الكمالات وربّما سمعوا ثناء أبيهم على يوسف عليه السّلام وأخيه في أعمال تصدر منهما أو شاهدوه يأخذ بإشارتهما أو رأوا منه شفقة عليهما لصغرهما ووفاة أمّهما فتوهّموا من ذلك أنّه أشدّ حبّاً إيّاهما منهم توهماً باطلاً‏.‏ ويجوز أن تكون دعواهم مطابقة للواقع وتكون زيادة محبّته إيّاهما أمراً لا يملك صرفه عن نفسه لأنّه وجدان ولكنّه لم يكن يؤثرهما عليهم في المعاملات والأمور الظاهريّة ويكون أبناؤه قد علموا فرط محبّة أبيهم إيّاهما من التوسّم والقرائن لا من تفضيلهما في المعاملة فلا يكون يعقوب عليه السّلام مؤاخذاً بشيء يفضي إلى التباغض بين الإخوة‏.‏

وجملة ‏{‏ونحن عصبة‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏أحبُّ‏}‏، أي ونحن أكثر عدداً‏.‏ والمقصود من الحال التعجّب من تفضيلهما في الحبّ في حال أنّ رجاء انتفاعه من إخوتهما أشدّ من رجائه منهما، بناء على ما هو الشائع عند عامّة أهل البدو من الاعتزاز بالكثرة، فظنوا مدارك يعقوب عليه السّلام مساوية لمدارك الدّهماء، والعقولُ قلما تدرك مراقي ما فوقها، ولم يعلموا أنّ ما ينظر إليه أهل الكمال من أسباب التفضيل غير ما ينظره مَن دونهم‏.‏

وتكون جملة ‏{‏إنّ أبَانَا لفي ضلال مبين‏}‏ تعليلاً للتعجّب وتفريعاً عليه، وضمير ‏{‏ونحن عصبة‏}‏ لجميع الإخوة عَدَا يوسف عليه السّلام وأخاه‏.‏ ويجوز أن تكون جملة ‏{‏ونحن عصبة‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا‏}‏‏.‏ والمقصود لازم الخبر وهو تجرئة بعضهم بعضاً عن إتيان العمل الذي سيغريهم به في قولهم‏:‏ ‏{‏اقتلوا يوسف‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 9‏]‏، أي إنّا لا يعجزنا الكيد ليوسف عليه السّلام وأخيه فإنّا عصبة والعصبة يهون عليهم العمل العظيم الذي لا يستطيعه العدد القليل كقوله‏:‏ ‏{‏قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنّا إذن لخاسرون‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 14‏]‏، وتكون جملة إنّ أبانا‏}‏ تعليلاً للإغراء وتفريعاً عليه‏.‏

و«العصبة‏:‏ اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل أسماء الجماعات، ويقال‏:‏ العصابة‏.‏ قال جمهور اللّغويين‏:‏ تطلق العصبة على الجماعة من عشرة إلى أربعين»‏.‏ وعن ابن عبّاس أنّها من ثلاثة إلى عشرة، وذهب إليه بعض أهل اللغة وذكروا أنّ في مصحف حفصة قوله تعالى‏:‏ «إنّ الذين جاءوا بالإفك عصبة أربعةٌ منكم»‏.‏

وكان أبناء يعقوب عليه السّلام اثني عشر، وهم الأسباط‏.‏ وقد تقدّم الكلام عليهم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون إنّ إبراهيم‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏140‏)‏‏.‏

والضلال إخطاء مسلك الصّواب‏.‏ وإنّما‏:‏ أراد وأخطأ التّدبير للعيش لا الخطأ في الدين والاعتقاد‏.‏ والتخطئة في أحوال الدّنيا لا تنافي الاعتراف للمخطئ بالنبوءة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأنّ الكلام المتقدم يثير سؤالاً في نفوس السّامعين عن غرض القائلين ممّا قالوه فهذا المقصود للقائلين‏.‏ وإنّما جعلوا له الكلام السابق كالمقدمة لتتأثّر نفوس السّامعين فإذا ألقي إليها المطلوب كانت سريعة الامتثال إليه‏.‏

وهذا فنّ من صناعة الخطابة أن يفتتح الخطيب كلامه بتهيئة نفوس السّامعين لتتأثّر بالغرض المطلوب‏.‏ فإنّ حالةَ تأثّر النفوس تغني عن الخطيب غَناء جمَل كثيرة من بيان العلل والفوائد، كما قال الحريري في المقامة الحادية عشرة «فلما دَفنوا الميْت، وفات قول ليت، أشرف شيخٌ من رِباوة، متأبّطاً لهراوة، فقال لمثل هذا فليعمل العاملون»‏.‏ وانهلّ في الخطب‏.‏

والأمر مستعمل في الإرشاد‏.‏ وأرادوا ارتكاب شيء يفرّق بين يوسف وأبيه عليهما السّلام تفرقة لا يحاول من جَرّائِهَا اقتراباً بأن يعدموه أو ينقلوه إلى أرض أخرى فيهلك أو يفْتَرَس‏.‏

وهذه آية من عبر الأخلاق السيّئة وهي التّخلّص من مزاحمة الفاضل بفضله لمن هو دونه فيه أو مساويه بإعدام صاحب الفضل وهي أكبر جريمة لاشتمالها على الحسد، والإضرار بالغير، وانتهاك ما أمر الله بحفظه، وهم قد كانوا أهل دين ومن بيت نبوءة وقد أصلح الله حالهم من بعد وأثنى عليهم وسمّاهم الأسباط‏.‏

وانتصب ‏{‏أرضاً‏}‏ على تضمين ‏{‏اطْرَحوه‏}‏ معنى أوْدعوه، أو على نزع الخافض، أو على تشبيهه بالمفعول فيه لأنّ ‏{‏أرضاً‏}‏ اسم مكان فلما كان غيرَ محدود وزاد إبهاماً بالتّنكير عومِلَ معاملة أسماء الجهات، وهذا أضعف الوجوه‏.‏ وقد علم أنّ المراد أرض مجهولة لأبيه‏.‏

وجَزم ‏{‏يَخْلُ‏}‏ في جواب الأمر، أي إنْ فعلتم ذلك يخلُ لكم وجه أبيكم‏.‏

والخلوّ‏:‏ حقيقته الفراغ‏.‏ وهو مستعمل هنا مجازاً في عدم التوجّه لمن لا يرغبون توجّهه له، فكأنّ الوجه خلا من أشياء كانت حالة فيه‏.‏

واللاّم في قوله ‏{‏لكم‏}‏ لام العلة، أي يخل وجه أبيكم لأجلكم، بمعنى أنّه يخلو ممّن عداكم فينفرد لكم‏.‏

وهذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبّته لهم دون مشارك‏.‏

وعطف ‏{‏وتكونوا من بعده‏}‏ أي من بعد يوسف عليه السّلام على ‏{‏يخل‏}‏ ليكون من جملة الجواب للأمر‏.‏ فالمراد كونٌ ناشيء عن فعل المأمور به فتعيّن أن يكون المراد من الصلاح فيه الصلاح الدنيوي، أيْ صلاح الأحوال في عيشهم مع أبيهم، وليس المراد الصلاح الديني‏.‏

وأنّما لم يدبروا شيئاً في إعدام أخي يوسف عليه السّلام شفقةً عليه لصغره‏.‏

وإقحام لفظ ‏{‏قوماً‏}‏ بَيْنَ كان وخبرها للإشارة إلى أنّ صلاح الحال صفة متمكّنة فيهم كأنّه من مقوّمات قوميّتهم‏.‏ وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات والنّذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏101‏)‏‏.‏

وهذا الأمر صدر من قائله وسامعيه منهم قبل اتّصافهم بالنبوءة أو بالولاية لأنّ فيه ارتكاب كبيرة القتل أو التّعذيب والاعتداء، وكبيرة العقوق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

فصْل جملة ‏{‏قال قائل‏}‏ جار على طريقة المقاولات والمحاورات، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنّه منهم‏.‏

والعدول عن اسمه العَلَم إلى التنكير والوصفيّة لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنّما المهمّ أنّه من جماعتهم‏.‏ وتجنّباً لما في اسمه العلم من الثقل اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه‏.‏ قيل‏:‏ إنّه ‏(‏يهوذا‏)‏ وقيل‏:‏ ‏(‏شمعون‏)‏ وقيل ‏(‏روبين‏)‏، والذي في سفر التّكوين من التّوراة أنه ‏(‏راوبين‏)‏ صدّهم عن قتله وأن يهوذا دل عليه السيارة كما في الإصحاح37‏.‏ وعادة القرآن أن لا يذكر إلاّ اسم المقصود من القصّة دون أسماء الذين شملتهم، مثل قوله‏:‏ ‏{‏وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعون‏}‏ ‏[‏سورة غافر‏:‏ 28‏]‏‏.‏

والإلقاء‏:‏ الرمي‏.‏

والغيابات‏:‏ جمع غيابة، وهي ما غاب عن البصر من شيء‏.‏ فيقال‏:‏ غيابة الجبّ وغيابة القبر والمراد قعر الجبّ‏.‏

والجبّ‏:‏ البئر التي تحفر ولا تطوى‏.‏

وقرأ نافع، وأبو جعفر غيابات بالجمع‏.‏ ومعناه جهات تلك الغيابة، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوْ كظلماتتٍ في بحرٍ لجّيّ‏}‏ ‏[‏سورة النور‏:‏ 40‏]‏ وقرأ الباقون في غيابت الجبّ‏}‏ بالإفراد‏.‏

والتّعريف في ‏{‏الجبّ‏}‏ تعريف العهد الذهني، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم‏:‏ ادخل السوق‏.‏ وهو في المعنى كالنكرة‏.‏

فلعلّهم كانوا قد عهدوا جباباً كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم، وقد توخوا أنْ تكون طرائقهم عليها، وأحسب أنّها كانت ينصب إليها ماء السيول، وأنّها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أنّ إلقاءه في الجبّ لا يهشّم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه‏.‏

و ‏{‏يلتقطه‏}‏ جواب الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏وألقوه‏}‏‏.‏ والتّقدير‏:‏ إن تلقوه يلتقطه‏.‏ والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أنّ ما أشار به القائل من إلقاء يوسف عليه السّلام في غيابة جبّ هو أمثل ممّا أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنّه يحصل به إبعاد يوسف عليه السّلام عن أبيه إبعاداً لا يرجى بعدَه تلاقيهما دون إلحاق ضرّ الإعدام بيوسف عليه السّلام؛ فإنّ التقاط السيّارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده، لأنّه إذا التقطه السيّارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعداً على بعد‏.‏

والالتقاط‏:‏ تناول شيء من الأرض أو الطريق، واستعير لأخذ شيء مضاع‏.‏

والسيّارة‏:‏ الجماعة الموصوفة بحالة السّير وكثرته، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاّحة والبَحّارة‏.‏

والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنّهم علموا أنّ الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتّجارة والميرة‏.‏

وجملة ‏{‏إن كنتم فاعلين‏}‏ شرط حذف جوابه لدلالة ‏{‏وألقوه‏}‏، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألْقوه في غيابات الجبّ ولا تقتلوه‏.‏

وفيه تعريض بزيادة التريّث فيما أضمروه لعلّهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو ‏{‏إنْ‏}‏ إيماء إلى أنّه لا ينبغي الجزم به، فكَانَ هذا القائل أمثل الإخوة رأياً وأقربهم إلى التّقوى، وقد علموا أنّ السيّارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء، لأنّها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر‏.‏ وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

استئناف بيانيّ لأنّ سوق القصّة يستدعي تساؤل السامع عمّا جَرَى بعد إشارة أخيهم عليهم، وهل رجعوا عمّا بيتوا وصمّموا على ما أشار به أخوهم‏.‏

وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم‏:‏ ‏{‏يا أبانا‏}‏ يقضي أنّ تلك عادتهم في خطاب الابن أباه‏.‏

ولعل يعقوب عليه السّلام كان لا يأذن ليوسف عليه السّلام بالخروج مع إخوته للرعي أو للسّبق خوفاً عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم، ولم يكن يصرّح لهم بأنّه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزّلوه منزلة من لا يأمنهم، وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان‏.‏

وفي التّوراة أن يعقوب عليه السّلام أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون، وإذا لم يكن تحريفاً فلعلّ يعقوب عليه السّلام بعد أن امتنع من خروج يوسف عليه السّلام معهم سمح له بذلك، أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك‏.‏

وتركيب ‏{‏ما لك‏}‏ لا تفعل‏.‏ تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لكم كيف تحكمون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏35‏)‏، وانظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا مَا لَكمْ إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثّاقلتم إلى الأرض‏}‏ في سورة بَراءة ‏(‏38‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ في سورة النساء ‏(‏88‏)‏‏.‏

واتفق القرّاء على قراءة ‏{‏لا تأمنّا‏}‏ بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلّمين، وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة‏.‏ واختفلوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض، وإدغام بإشمام، وإخفاء بلا إدغام، وهذا الوجه الأخير مرجوح، وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام، وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين‏.‏

وحرف ‏{‏على‏}‏ التي يتعدّى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكّن من تعلّق الائتمان بمدخول ‏{‏على‏}‏‏.‏

والنّصح عمل أو قول فيه نفع للمنصوح، وفعله يتعدّى باللاّم غالباً وبنفسه‏.‏ وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أبلّغكم رسالات ربّي وأنصح لكم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏62‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏وإنّا له لناصحون‏}‏ معترضة بين جملتي ‏{‏ما لك لا تأمنّا‏}‏ وجملة ‏{‏أرسله‏}‏‏.‏ والمعنى هنا‏:‏ أنهم يعملون ما فيه نفع ليوسف عليه السّلام‏.‏

وجملة ‏{‏أرسله‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأن الإنكار المتقدّم يثير ترقب يعقوب عليه السّلام لمعرفة ما يريدون منه ليوسف عليه السّلام‏.‏

و ‏{‏يرتَع‏}‏ قرأه نافع، وأبو جعفر، ويعقوب بياء الغائب وكسر العَين‏.‏ وقرأه ابن كثير بنون المتكلّم المشارك وكسر العين وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعَى وهو افتعال من الرّعي للمبالغة فيه‏.‏

فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأنّ الناس إذا خرجوا إلى الرّياض والأرياف للّعب والسّبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلاً ذريعاً فلذلك شبّه أكلهم بأكل الأنعام‏.‏

وإنّما ذكروا ذلك لأنّه يسرّ أباهم أن يكونوا فرحين‏.‏

وقرأه أبو عمرو، وابن عامر بنون وسكون العين‏.‏ وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بياء الغائب وسكون العين وهو على قراءتي هؤلاء الستة مضارع رتَع إذا أقام في خصب وسعة من الطعام‏.‏ والتحقيق أنّ هذا مستعار من رتعت الدّابة إذا أكلت في المرعى حتّى شبعت‏.‏ فمفاد المعنى على التأويلين واحد‏.‏

واللّعب‏:‏ فعل أو كلام لا يراد منه ما شأنه أن يراد بمثله نحو الجري والقفز والسّبق والمراماة، نحو قول امرئ القيس‏:‏

فظلّ العذارى يرتمين بشحمها ***

يقصد منه الاستجمام ودفع السآمة‏.‏ وهو مباح في الشرائع كلّها إذا لم يصر دأباً‏.‏ فلا وجه لتساؤل صاحب «الكشاف» على استجازة يعقوب عليه السّلام لهم اللعب‏.‏

والذين قرأوا ‏{‏نرتع‏}‏ بنون المشاركة قرأوا ‏{‏ونلعب‏}‏ بالنون أيضاً‏.‏

وجملة ‏{‏وإنّا له لحافظون‏}‏ في موضع الحال مثل ‏{‏وإنّا له لناصحون‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والتّأكيد فيهما للتّحقيق تنزيلاً لأبيهم منزلة الشّاك في أنّهم يحفظونه وينصحونه كما نزّلوه منزلة من لا يأمنهم عليه من حيث إنّه كان لا يأذن له بالخروج معهم للرعي ونحوه‏.‏

وتقديم له‏}‏ في ‏{‏له لناصحون‏}‏ و‏{‏له لحافظون‏}‏ يجوز أن يكون لأجل الرعاية للفاصلة والاهتمام بشأن يوسف عليه السّلام في ظاهر الأمر، ويجوز أن يكون للقصر الادّعائي؛ جعلوا أنفسهم لفرط عنايتهم به بمنزلة من لا يحفظ غيره ولا ينصح غيره‏.‏

وفي هذا القول الذي تواطأوا عليه عند أبيهم عبرة من تواطئ أهل الغرض الواحد على التحيّل لنصب الأحابيل لتحصيل غرض دنيء، وكيف ابتدأوا بالاستفهام عن عدم أمنه إيّاهم على أخيهم وإظهار أنّهم نصحاء له، وحققوا ذلك بالجملة الاسمية وبحرف التوكيد، ثمّ أظهروا أنّهم ما حرصوا إلاّ على فائدة أخيهم وأنّهم حافظون له وأكّدوا ذلك أيضاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

فصل جملة ‏{‏قال‏}‏ جار على طريقة المحاورة‏.‏

أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف عليه السّلام معهم إلى الرّيف بأنّه يحزنه لبعده عنه أيّاماً، وبأنّه يخشى عليه الذئاب، إذ كان يوسف عليه السّلام حينئذٍ غلاماً، وكان قد رُبّيَ في دَعَة فلم يكن مَرناً بمقاومة الوحوش، والذئابُ تَجْتَرئ على الذي تحسّ منه ضعفاً في دفاعها‏.‏ قال الرّبيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف الشيخوخة‏:‏

والذّئب أخشاه إن مررت به *** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وقال الفرزدق يذكر ذئباً‏:‏

فقلت له لمّا تكشّر ضاحكاً *** وقائم سيفي من يدي بمكان

تعش فإن عاهدتني لا تخونني *** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فذئاب بادية الشّام كانت أشدّ خبثاً من بقية الذئاب، ولعلّها كانت كذئاب بلاد الرُّوس‏.‏ والعرب يقولون‏:‏ إنّ الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتّى عضّ الإنسان وأسال دمه أنّه يضرى حين يرى الدمّ فيستأسد على الإنسان، قال‏:‏

فكنت كذئب السّوء حين رأى دماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدم

وقد يتجمّع سرب من الذئاب فتكون أشدّ خطراً على الواحد من الناس والصغير‏.‏

والتعريف في ‏{‏الذئب‏}‏ تعريف الحقيقة والطبيعة، ويسمّى تعريف الجنس‏.‏ وهو هنا مراد به غير معيّن من نوع الذئب أو جماعة منه، وليس الحكم على الجنس بقرينة أن الأكل من أحوال الذّوات لا من أحوال الجنس، لكن المراد أية ذات من هذا الجنس دون تعيين‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الحمار يحمل أسفاراً‏}‏ ‏[‏سورة الجمعة‏:‏ 5‏]‏ أي فرد من الحمير غير معيّن، وقرينة إرادة الفرد دون الجنس إسناد حمل الأسفار إليه لأنّ الجنس لا يحمل‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ ‏(‏ادخل السوق‏)‏ إذا أردت فرداً من الأسواق غير معين، وقولك‏:‏ ادخل، قرينة على ما ذكر‏.‏ وهذا التّعريف شبيه بالنّكرة في المعنى إلاّ أنّه مراد به فرد من الجنس‏.‏ وقريب من هذا التّعريف باللاّم التعريف بعلم الجنس، والفرق بين هذه اللام وبين المنكّر كالفرق بين علم الجنس والنكرة‏.‏

فالمعنى‏:‏ أخاف أن يأكله الذّئب، أي يَقتله فيأكل منه فإنّكم تبعدون عنه، لمَا يعلم من إمعانهم في اللّعب والشّغل باللهو والمسابقة، فتجتري الذئاب على يوسف عليه السّلام‏.‏

والذئب‏:‏ حيوان من الفصيلة الكلبيّة، وهو كلب بَرّي وحشيّ‏.‏ من خلقه الاحتيال والنفورُ‏.‏ وهو يفترس الغنم‏.‏ وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به فربّما مزّقه‏.‏

وإنّما ذكر يعقوب عليه السّلام أنّ ذهابهم به غَدا يحدث به حزناً مستقبلاً ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به لأنّ شأن الابن البار أن يتّقي ما يحزن أباه‏.‏

وتأكيد الجملة بحرف التّأكيد لقطع إلحاحهم بتحقيق أنّ حزنه لفراقه ثابت، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك، إذْ رأى إلحاحهم‏.‏ ويسري التّأكيد إلى جملة وأخاف أن يأكله الذئب‏}‏‏.‏

فأبوا إلاّ المراجعة قالوا‏:‏ ‏{‏لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنّا إذن لخاسرون‏}‏‏.‏

واللاّم في ‏{‏لئِن أكله‏}‏ موطّئة للقسم، أرادوا تأكيد الجواب باللاّم‏.‏ وإنّ ولام الابتداء وإذن الجوابيّة تحقيقاً لحصول خسرانهم على تقدير حصول الشّرط‏.‏ والمراد‏:‏ الكناية عن عدم تفريطهم فيه وعن حفظهم إيّاه لأنّ المرء لا يرضى أن يوصف بالخسران‏.‏

والمراد بالخسران‏:‏ انتفاء النفع المرجوّ من الرّجال، استعاروا له انتفاء نفع التاجر من تجره، وهو خيبة مذمومة، أي إنّا إذن لمسلوبون من صفات الفتوة من قوة ومقدرة ويقظة‏.‏ فكونهم عصبة يحول دون تواطيهم على ما يوجب الخسران لِجميعهم‏.‏ وتقدم معنى العصبة آنفاً، وفي هذا عبرة مِن مقدار إظهار الصّلاح مع استبطان الضرّ والإهلاك‏.‏

وقرأ الجمهور بتحقيق همزة ‏{‏الذئب‏}‏ على الأصل‏.‏ وقرأه ورش عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو، والكسائيّ بتخفيف الهمزة ياء‏.‏ وفي بعض التفاسير نسب تخفيف الهمزة إلى خلف، وأبي جعفر، وذلك لا يعرف في كتب القراءات‏.‏ وفي البيضاوي أنّ أبا عَمرو أظهر الهمزة في التوقّف، وأنّ حمزة أظهرها في الوصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

تفريع حكاية الذّهاب به والعزم على إلقائه في الجبّ على حكاية المحاورة بين يعقوب عليه السّلام وبنيه في محاولة الخروج بيوسف عليه السّلام إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على يعقوب عليه السّلام حتّى أقنعوه فأذن ليوسف عليه السّلام بالخروج معهم، وهو إيجاز‏.‏

والمعنى‏:‏ فلمّا أجابهم يعقوب عليه السّلام إلى ما طلبوا ذهبوا به وبلغوا المكان الذي فيه الجب‏.‏

وفعل ‏(‏أجمع‏)‏ يتعدّى إلى المفعول بنفسه‏.‏ ومعناه‏:‏ صمّم على الفعل، فقوله‏:‏ ‏{‏أن يجعلوه‏}‏ هو مفعول ‏{‏وأجمعوا‏}‏‏.‏

وجواب ‏(‏لمّا‏)‏ محذوف دلّ عليه ‏{‏أن يجعلوه في غيابت الجب‏}‏، والتقدير‏:‏ جعلوه في الجب‏.‏ ومثله كثير في القرآن‏.‏ وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن فهو تقليل في اللّفظ لظهور المعنى‏.‏

وجملة ‏{‏وأوحينا إليه‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب‏}‏، لأنّ هذا الموحى من مهمّ عبر القصة‏.‏

وقيل‏:‏ الواو مزيدة وجملة ‏{‏أوحينا‏}‏ هو جواب ‏(‏لمّا‏)‏، وقد قيل بمثل ذلك في قوله امرئ القيس‏:‏

فلمّا أجزنا ساحة الحي وانتحى

‏.‏ ‏.‏‏.‏ البيت‏.‏

وقيل به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا أسلما وتلّه للجبين وناديناه أنْ يا إبراهيم‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 103، 104‏]‏ الآية وفي جميع ذلك نظر‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ إليه‏}‏ عائد إلى يوسف عليه السّلام في قول أكثر المفسّرين مقتصرين عليه‏.‏ وذكر ابن عطية أنّه قيل الضمير عائد إلى يعقوب عليه السّلام‏.‏

وجملة ‏{‏لتنبئنهم بأمرهم هذا‏}‏ بيان لِجلمة ‏{‏أوحينا‏}‏‏.‏ وأكّدت باللاّم ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال‏.‏ فعلى الأوّل فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاماً ألقاه الله في نفس يوسف عليه السّلام حين كيدهم له، ويحتمل أنّه وحي بواسطة المَلك فيكون إرهاصاً ليوسف عليه السّلام قبل النّبوءة رحمة من الله ليزيل عنه كربه، فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له، وإيذان بأنّه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة، وبأنه سينبئ في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية، وذلك يستلزم نجاته وتمكّنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكّن منهم وأمن من شرهم‏.‏

ومعنى ‏{‏بأمرهم‏}‏‏:‏ بفعلهم العظيم في الإساءة‏.‏

وجملة ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ في موضع الحال، أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعاً على المغيبات متكهناً بها، وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه‏}‏

‏[‏سورة يوسف‏:‏ 89‏]‏ الآيتين‏.‏

وعلى احتمال عود ضمير إليه‏}‏ على يعقوب عليه السّلام فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة المَلَك، والواو أظهر في العطف حينئذٍ فهو معطوف على جملة ‏{‏فلما ذهبوا به‏}‏ إلى آخرها ‏{‏وأوحينا إليه‏}‏ قبل ذلك‏.‏ و‏{‏لتنبئنهم‏}‏ أمر، أي أوحينا إليه نَبّئْهم بأمرهم هذا، أي أشعرهم بما كادوا ليوسف عليه السّلام، إشعاراً بالتعريض، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وجملة وهم لا يشعرون‏}‏ على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين، أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك‏.‏

وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف عليه السّلام وقع في التوراة أنه في أرض ‏(‏دوثان‏)‏، ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا‏.‏ والمراد‏:‏ أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع‏.‏ ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل‏.‏ واتّفق واصفو الجب على أنه بين ‏(‏بانياس‏)‏ و‏(‏طبرية‏)‏‏.‏ وأنه على اثني عشر ميلاً من طبرية ممّا يلي دمشق، وأنه قرب قرية يقال لها ‏(‏سنجل أو سنجيل‏)‏‏.‏ قال قدامة‏:‏ هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية‏.‏

ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر‏.‏ وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية وتمر على ‏(‏دوثان‏)‏ وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق، وفي هذه الطريق جباب كثيرة في ‏(‏دوثان‏)‏‏.‏ وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسّم وهي قائمة إلى الآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ * قَالُواْ ياأبانا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين‏}‏ ‏{‏وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ‏}‏

عطف على جملة ‏{‏فلما ذهبوا به‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 15‏]‏ عطف جزء القصة‏.‏

والعشاء‏:‏ وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها‏.‏

والبكاء‏:‏ خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي‏.‏ وإنما اصطنعوا البكاء تمويهاً على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف عليه السّلام، ولعلّهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه، وفي الناس عجائب من التمويه والكيد‏.‏ ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة‏.‏

وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل ولا تنوط بها حكماً، وإنما يناط الحكم بالبينة‏.‏

جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها، فقيل له‏:‏ أما تراها تبكي‏؟‏ فقال‏:‏ قد جاء إخوة يوسف عليه السّلام أباهم عشاء يبكون وهم ظلَمة كَذبَة، لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ قال علماؤنا‏:‏ هذا يدلّ على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنّعاً‏.‏ ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر‏.‏

قلت‏:‏ ومن الأمثال دموع الفاجر بيديه وهذه عبرة في هذه العبرة‏.‏

والاستباق‏:‏ افتعال من السبق وهو هنا بمعنى التسابق قال في الكشاف‏}‏‏:‏ «والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل، والارتماء والترامي، أي فهو بمعنى المفاعلة‏.‏ ولذلك يقال‏:‏ السباق أيضاً‏.‏ كما يقال النضال والرماء»‏.‏ والمراد‏:‏ الاستباق بالجري على الأرجل، وذلك من مرح الشباب ولعبهم‏.‏

والمتاع‏:‏ ما يتمتع أي ينتفع به‏.‏ وتقدم قي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏102‏)‏‏.‏ والمراد به هنا ثَقَلهم من الثياب والآنية والزاد‏.‏

ومعنى فأكله الذئب‏}‏ قتله وأكل منه، وفعل الأكل يتعلق باسم الشيء‏.‏ والمراد بعضه‏.‏ يقال أكلَه الأسد إذا أكل منه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكل السّبع‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 3‏]‏ عطفاً على المنهيات عن أن يؤكل منها، أي بقتلها‏.‏

ومن كلام عمر حين طعنه أبو لؤلؤة أكلني الكلب، أي عضّني‏.‏

والمراد بالذئب جمع من الذئاب على ما عرفت آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏وأخاف أن يأكله الذئب‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 13‏]‏؛ بحيث لم يترك الذئاب منه، ولذلك لم يقولوا فدفنّاه‏.‏

وقوله‏:‏ وما أنت بمؤمن لنا‏}‏ خبر مستعمل في لازم الفائدة‏.‏ وهو أن المتكلم علم بمضمون الخبر‏.‏ وهو تعريض بأنهم صادقون فيما ادّعوه لأنهم يعلمون أباهم لا يصدقهم فيه، فلم يكونوا طامعين بتصديقه إياهم‏.‏

وفعل الإيمان يعدّى باللام إلى المصدّق بفتح الدال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمن له لوطٌ‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وتقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه‏}‏ في سورة يونس ‏(‏83‏)‏‏.‏

وجملة ولو كنا صادقين‏}‏ في موضع الحال فالواو واو الحال‏.‏ ‏{‏ولو‏}‏ اتصالية، وهي تفيد أنه مضمون ما بعدها هو أبعد الأحوال عن تحقق مضمون ما قبلها في ذلك الحال‏.‏ والتقدير‏:‏ وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين في نفس الأمر، أي نحن نعلم انتفاء إيمانك لنا في الحالين فلا نطمع أن نموّه عليك‏.‏

وليس يلزم تقدير شرط محذوف هو ضد الشرط المنطوق به لأن ذلك تقدير لمجرد التنبيه على جعل الواو للحال مع ‏(‏لو وإن‏)‏ الوصليتين وليس يستقيم ذلك التقدير في كل موضع، ألا ترى قول المعري‏:‏

وإني وإن كنتُ الأخيّر زمانه *** لآتتٍ بما لم تستطعه الأوائل

كيف لا يستقيم تقدير إني إن كنت المتقدم زمانه بل وإن كنت الأخيرَ زمانه‏.‏ فشرط ‏(‏لو‏)‏ الوصلية و‏(‏إن‏)‏ الوصلية ليس لهما مفهومُ مخالفة، لأن الشرط معهما ليس للتقييد‏.‏ وتقدم ذكر ‏(‏لَو‏)‏ الوصلية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏170‏)‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏

وجملة وجاءوا على قميصه‏}‏ في موضع الحال‏.‏ ولما كان الدم ملطخاً به القميص وكانوا قد جاءوا مصاحبين للقميص فقد جاءوا بالدم على القميص‏.‏

ووصف الدم بالكذب وصف بالمصدر، والمصدر هنا بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق، أي مكذوب كونه دم يوسف عليه السّلام إذ هو دم جدي، فهو دم حقاً لكنه ليس الدم المزعوم‏.‏ ولا شك في أنهم لم يتركوا كيفية من كيفيات تمويه الدم وحالة القميص بحال قميص من يأكله الذئب من آثار تخريق وتمزيق مما لا تخلو عنه حالة افتراس الذئب، وأنهم أفطن من أن يفوتهم ذلك وهم عصبة لا يعْزُب عن مجموعهم مثل ذلك‏.‏ فما قاله بعض أصحاب التفسير من أن يعقوب عليه السّلام قال لأبنائه‏:‏ ما رأيت كاليوم ذئباً أحلَم من هذا، أكل ابني ولم يمزق قميصه، فذلك من تظرفات القصص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على قميصه‏}‏ حال من ‏(‏دم‏)‏ فقدم على صاحب الحال‏.‏

حرف الإضراب إبطال لدعواهم أن الذئب أكله فقد صرح لهم بكذبهم‏.‏

والتسويل‏:‏ التسهيل وتزيين النفس ما تحرص على حصوله‏.‏

والإبهام الذي في كلمة ‏{‏أمراً‏}‏ يحتمل عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف عليه السّلام‏:‏ من قتل، أو بيع، أو تغريب، لأنه لم يعلم تعيين ما فعلوه‏.‏ وتنكير ‏{‏أمراً‏}‏ للتهويل‏.‏

وفرّع على ذلك إنشاءُ التصبر ‏{‏فصبرٌ جميل‏}‏ نائب مناب اصبر صبراً جميلاً‏.‏ عدل به عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات والدوام، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏قالوا سلاماً قال سلامٌ‏}‏ في سورة هود ‏(‏69‏)‏‏.‏ ويكون ذلك اعتراضاً في أثناء خطاب أبنائه، أو يكون تقدير‏:‏ اصبر صبراً جميلاً، على أنه خطاب لنفسه‏.‏ ويجوز أن يكون فصبر جميل‏}‏ خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه السياق، أي فأمْري صبرٌ‏.‏ أو مبتدأ خبره محذوف كذلك‏.‏ والمعنى على الإنشاء أوقع، وتقدم الصبر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏‏.‏

ووصف ‏{‏جميل‏}‏ يحتمل أن يكون وصفاً كاشفاً إذ الصبر كله حسن دون الجزع‏.‏ كما قال إبراهيم بن كنيف النبهاني‏:‏

تصبّر فإنّ الصبر بالحرّ أجمل *** وليس على ريب الزمان معوّل

أي أجمل من الجزع‏.‏

ويحتمل أن يكون وصفاً مخصصاً‏.‏ وقد فسّر الصبر الجميل بالذي لا يخالطه جزع‏.‏

والجمال‏:‏ حسن الشيء في صفات محاسن صنفه، فجمال الصبر أحسن أحواله، وهو أن لا يقارنه شيء يقلل خصائص ماهيته‏.‏

وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه السّلام مر بامرأة تبكي عند قبر فقال لها‏:‏ «اتقي الله واصبري» فقالت‏:‏ إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فلما انصرف مرّ بها رجل، فقال لها‏:‏ إنه النبيءُ صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ لم أعرفك يا رسول الله، فقال‏:‏ «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» أي الصبر الكامل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله المستعان على ما تصفون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فصبر جميل‏}‏ فتكون محتملة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمل الصبر على ذلك، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف عليه السّلام على الخلاص مما أحاط به‏.‏

والتعبير عما أصاب يوسف عليه السّلام ب ‏{‏ما تصفون‏}‏ في غاية البلاغة لأنه كان واثقاً بأنهم كاذبون في الصفة وواثقاً بأنهم ألحقوا بيوسف عليه السّلام ضراً فلما لم يتعيّن عنده المصاب أجمل التعبير عنه إجمالاً موجهاً لأنهم يحسبون أن ما يصفونه هو موته بأكل الذئب إياه ويعقوب عليه السّلام يريد أن ما يصفونه هو المصاب الواقع الذي وصفوه وصفاً كاذباً‏.‏ فهو قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 180‏]‏‏.‏

وإنما فوض يعقوب عليه السّلام الأمر إلى الله ولم يسْعَ للكشف عن مصير يوسف عليه السّلام لأنه علم تعذر ذلك عليه لكبر سنه، ولأنه لا عضد له يستعين به على أبنائه أولئك‏.‏ وقد صاروا هم الساعين في البعد بيْنه وبين يوسف عليه السّلام، فأيس من استطاعة الكشف عن يوسف عليه السّلام بدونهم، ألا ترى أنه لما وجد منهم فرصة قال لهم‏:‏ ‏{‏اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 87‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏وجاءوا أباهم عشاء يبكون‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 16‏]‏ عطف قصة على قصة‏.‏ وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف عليه السّلام، والمعنى‏:‏ وجاءت الجبّ‏.‏

و ‏(‏السّيّارة‏)‏ تقدم آنفاً‏.‏

والوارد‏:‏ الذي يرد الماء ليستقي للقوم‏.‏

والإدلاء‏:‏ إرسال الدلو في البئر لنزع الماء‏.‏

والدلو‏:‏ ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطوياً على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو‏.‏ والدلو مؤنثة‏.‏

وجملة قال يا بشراي مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر إدلاء الدلو يهيّئ السامع للسؤال عمّا جرى حينئذٍ فيقع جوابه قال يا بشراي‏.‏

والبشرى‏:‏ تقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ في سورة يونس ‏(‏64‏)‏‏.‏

ونداء البشرى مجاز، لأنّ البشرى لا تنادى، ولكنها شبّهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له‏:‏ هذا آن حضورك‏.‏ ومنه‏:‏ يا حسرتَا، ويا عجباً، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام‏.‏

وقرأ الجمهور يا بشّرَايَ‏}‏ بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بدون إضافة‏.‏

واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف عليه السّلام؛ خاطب الواردُ بقية السيّارة، ولم يكونوا يرون ذات يوسف عليه السّلام حين أصعده الوارد من الجب، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام، فتعين أيضاً أنهم لم يكونوا مشاهدين شبح يوسف عليه السّلام حين ظهر من الجب، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معيّنة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصَل شيءٌ فرح به غير مترقب، كما يقول الصائد لرفاقه‏:‏ هذا غزال وكما يقول الغائص‏:‏ هذه صدقة أو لؤلؤة ويقول الحافر للبئر‏:‏ هذا الماء قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه‏:‏

يقول راكبه الجنيّ مرتفقاً *** هذا لكُنّ ولحم الشاة محجور

وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون‏.‏ قال النابغة‏:‏

أو درّة صدفاته غوّاصها *** بهج متى يُرها يهلّ ويسجد

والمعنى‏:‏ وجدت في البئر غلاماً، فهو لقطة، فيكون عبداً لمن التقطه‏.‏ وذلك سبب ابتهاجه بقوله‏:‏ ‏{‏يا بشراي هذا غلام‏}‏‏.‏

والغلام‏:‏ مَن سنهُ بين العشر والعشرين‏.‏ وكان سنّ يوسف عليه السّلام يومئذٍ سبع عشرة سنة‏.‏

وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيليين كما في التّوراة، أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب‏.‏

ومعنى ‏{‏أسَرُّوه‏}‏ أخْفَوْه‏.‏ والضمير للسيارة لا محالة، أي أخْفوا يوسف عليه السّلام، أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردّى في الجب، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت، وكان الشأن أن يعرّفوا من كان قريباً من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللّقطة، ولذلك كان قوله‏:‏ ‏{‏وأسرّوه‏}‏ مشعراً بأن يوسف عليه السّلام أخبرهم بقصته، فأعرضوا عن ذلك طمعاً في أن يبيعوه‏.‏

وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين‏.‏

و ‏{‏بضاعةً‏}‏ منصوب على الحال المقدّرة من الضمير المنصوب في ‏{‏أسرّوه‏}‏، أي جعلوه بضاعة‏.‏ والبضاعة‏:‏ عروض التجارة ومتاعها، أي عزموا على بيعه‏.‏

وجملة ‏{‏والله عليم بما يعملون‏}‏ معترضة، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حقّ في استرقاقه، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم، لأنهم قد علموا خبره، أو كان من حقهم أن يسْألوه لأنه كان مستطيعاً أن يخبرهم بخبره‏.‏

وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف عليه السّلام آية من لطف الله به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

معنى ‏{‏شروه‏}‏ باعوه‏.‏ يقال‏:‏ شرى كما يقال‏:‏ باع، ويقال‏:‏ اشترى كما يقال‏:‏ ابتاع‏.‏ ومثلهما رَهن وارتهن، وعاوض واعتاض، وكَرى واكترى‏.‏

والأصل في ذلك وأمثاله أن الفعل للحدث والافتعال لمطاوعة الحدث‏.‏

ومن فسر ‏{‏شروه‏}‏ باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏‏.‏ وما ادّعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وَهَم إذ لا دليل يدل عليه‏.‏

والبخس‏:‏ أصله مصدر بَخَسه إذا نقصه عن قيمة شيئه‏.‏ وهو هنا بمعنى المبخوس كالخلق بمعنى المخلوق‏.‏ وتقدم فعل البخس عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يَبخس منه شيئاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏282‏)‏‏.‏

و ‏{‏دراهم‏}‏ بدل من ‏{‏ثمن‏}‏ وهي جمع درهم، وهو المسكوك‏.‏ وهو معرّب عن الفارسية كما في «صحاح الجوهري»‏.‏

وقد أغفله الذين جمعوا ما هو معرب في القرآن كالسيوطي في «الإتقان»‏.‏

و ‏{‏معدودة‏}‏ كناية عن كونها قليلة لأن الشيء القليل يسهل عدّه فإذا كثر صار تقديره بالوزن أو الكيل‏.‏ ويقال في الكناية عن الكثرة‏:‏ لا يعدّ‏.‏

وضمائر الجمع كلها للسيّارة على أصح التفاسير‏.‏

والزهادة‏:‏ قلة الرغبة في حصول الشيء الذي من شأنه أن يرغب فيه، أو قلة الرغبة في عوضه كما هنا، أي كان السيارة غير راغبين في إغلاء ثمن يوسف عليه السّلام‏.‏ ولعل سبب ذلك قلة معرفتهم بالأسعار‏.‏

وصوغ الإخبار عن زهادتهم فيه بصيغة ‏{‏من الزاهدين‏}‏ أشد مبالغة مما لو أخبر بكانوا فيه زاهدين، لأن جعلهم من فريق زاهدين ينبئ بأنهم جَروا في زهدهم في أمثاله على سنَن أمثالهم البسطاء الذين لا يقدرون قدر نفائس الأمور‏.‏

و ‏{‏فيه‏}‏ متعلق ب ‏{‏الزاهدين‏}‏ و‏(‏أل‏)‏ حرف لتعريف الجنس، وليست اسم موصول خلافاً لأكثر النحاة الذين يجعلون ‏(‏أل‏)‏ الداخلة على الأسماء المشتقة اسم موصول ما لم يتحقق عهد وتمسكوا بعلل واهية وخالفهم الأخفش والمازني‏.‏

وتقديم المجرور على عامله للتنويه بشأن المزهود فيه، وللتنبيه على ضعف توسمهم وبصارتهم مع الرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذى اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏‏.‏

‏{‏الذي اشتراه‏}‏ مراد منه الذي دفع الثمن فملكه وإن كان لم يتول الاشتراء بنفسه، فإن فعل الاشتراء لا يدل إلاّ على دفع العوض، بحيث إن إسناد الاشتراء لمن يتولى إعطاء الثمن وتسلم المبيع إذا لم يكن هو مالك الثمن ومالك المبيع يكون إسناداً مجازياً، ولذلك يكتب الموثّقون في مثل هذا أن شراءه لفلان‏.‏

والذي اشترى يوسفَ عليه السّلام رجل اسمه ‏(‏فوطيفار‏)‏ رئيس شرط ملك مصر، وهو والي مدينة مصر، ولقّب في هذه السورة بالعزيز، وسيأتي‏.‏

ومدينة مصر هي ‏(‏منفيس‏)‏ ويقال‏:‏ ‏(‏منف‏)‏ وهي قاعدة مصر السفلى التي يحكمها قبائل من الكنعانيين عرفوا عند القبط باسم ‏(‏الهيكسوس‏)‏ أي الرعاة‏.‏ وكانت مصر العليا المعروفة اليوم بالصعيد تحت حكم فراعنة القبط‏.‏ وكانت مدينتها ‏(‏ثيبة أو طيبة‏)‏، وهي اليوم خراب وموضعها يسمّى الأقصر، جمع قصر، لأن بها أطلال القصور القديمة، أي الهياكل‏.‏ وكانت حكومة مصر العليا أيامئذٍ مستضعفة لغلبة الكنعانيين على معظم القطر وأجوده‏.‏

وامرأته تسمّى في كتب العرب ‏(‏زَلِيخا‏)‏ بفتح الزاي وكسر اللام وقصر آخره وسماها اليهود ‏(‏راعيل‏)‏‏.‏ و‏{‏من مصر‏}‏ صفة ل ‏{‏الذي اشتراه‏}‏‏.‏

و ‏{‏لامرأته‏}‏ متعلق ب ‏{‏قال‏}‏ أو ب ‏{‏اشتراه‏}‏ أو يتنازعه كلا الفعلين، فيكون اشتراه ليهبه لها لتتخذه ولداً‏.‏ وهذا يقتضي أنهما لم يكن لهما ولد‏.‏

وامرأته‏:‏ معناه زوجه، فإن الزوجة يطلق عليها اسم المرأة ويراد منه معنى الزوجة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامرأته قائمة فضحكت‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 71‏]‏‏.‏

والمثوى‏:‏ حقيقته المحل الذي يَثوي إليه المرء، أي يرجع إليه‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال النار مثواكم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏128‏)‏‏.‏ وهو هنا كناية عن حال الإقامة عندهما لأن المرء يثوَى إلى منزل إقامته‏.‏

فالمعنى‏:‏ اجعلي إقامته عندك كريمة، أي كاملة في نوعها‏.‏ أراد أن يجعل الإحسان إليه سبباً في اجتلاب محبته إياهما ونصحه لهما فينفعهما، أو يتخذانه ولداً فيبرّ بهما وذلك أشد تقريباً‏.‏ ولعله كان آيساً من ولادة زوجه‏.‏ وإنما قال ذلك لحسن تفرّسه في ملامح يوسف عليه السّلام المؤذنة بالكمال، وكيف لا يكون رجلاً ذا فراسة وقد جعله الملك رئيس شرطته، فقد كان الملوك أهل حذر فلا يولون أمورهم غير الأكفاء‏.‏

‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

إن أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏ كانت الإشارة إلى التمكين المستفاد من ‏{‏مكّنّا ليوسف‏}‏ تنويهاً بأن ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلا أن يشبّه بنفسه على نحو قول النابغة‏:‏

والسفاهة كاسمها ***

فيكون الكاف في محل نصب على المفعول المطلق‏.‏ والتقدير‏:‏ مكنا ليوسف تمكيناً كذلك التمكين‏.‏

وإن أجرينا على ما يحتمله اللفظ كانت لحاصل المذكور آنفاً، وهو ما يفيده عثور السيارة عليه من أنه إنجاء له عجيب الحصول بمصادفة عدم الإسراع بانتشاله من الجب، أي مكنا ليوسف عليه السّلام تمكيناً من صنعنا، مثل ذلك الإنجاء الذي نجيناه، فتكون الكاف في موضع الحال من مصدر مأخوذ من ‏{‏مكّنّا‏}‏‏.‏ ونظيره ‏{‏كذلك زيّنّا لكل أمةٍ عملهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏108‏)‏‏.‏

والتمكين في الأرض هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أول أجزائه، فيوسف عليه السّلام بحلوله محل العناية من عزيز مصر قد خُطّ له مستقبل تمكينه من الأرض بالوجه الأتمّ الذي أشير له بقوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 56‏]‏، فما ذكر هنالك هو كردّ العجز على الصدر مما هنا، وهو تمامه‏.‏

وعطف على وكذلك‏}‏ علة لمعنى مستفاد من الكلام، وهو الإيتاء، تلك العلة هي ‏{‏ولنعلّمه من تأويل الأحاديث‏}‏ لأن الله لما قدّر في سابق علمه أن يجعل يوسف عليه السّلام عالماً بتأويل الرؤيا وأن يجعله نبيئاً أنجاه من الهلاك، ومكن له في الأرض تهيئة لأسباب مراد الله‏.‏

وتقدم معنى تأويل الأحاديث آنفاً عند ذكر قول أبيه له‏:‏ ‏{‏ويعلمك من تأويل الأحاديث‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 6‏]‏ أي تعبير الرؤيا‏.‏

وجملة والله غالب على أمره‏}‏ معترضة في آخر الكلام، وتذييل، لأن مفهومها عامّ يشمل غَلَب الله إخوةَ يوسف عليه السّلام بإبطال كيدهم، وضمير ‏{‏أمره‏}‏ عائد لاسم الجلالة‏.‏

وحرف ‏{‏على‏}‏ بعد مادة الغلب ونحوها يدخل على الشيء الذي يتوقع فيه النزاع، كقولهم‏:‏ غلبناهم على الماء‏.‏

و ‏{‏أمرُ الله‏}‏ هو ما قدّره وأراده، فمن سعى إلى عمل يخالف ما أراده الله فحاله كحال المنازع على أن يحقق الأمر الذي أراده ويمنع حصول مراد الله تعالى ولا يكون إلا ما أراده الله تعالى فشأن الله تعالى كحال الغالب لمنازعه‏.‏ والمعنى والله متمم ما قدره، ولذلك عقّبه بالاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ استدراكاً على ما يقتضيه هذا الحكم من كونه حقيقة ثابتة شأنها أن لا تجعل لأن عليها شواهد من أحوال الحدثان، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك مع ظهوره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

هذا إخبار عن اصطفاء يوسف عليه السّلام للنبوءة‏.‏ ذكر هنا في ذكر مبدأ حلوله بمصر لمناسبة ذكر منّة الله عليه بتمكينه في الأرض وتعليمه تأويل الأحاديث‏.‏

والأشدُّ‏:‏ القوة‏.‏ وفسر ببلوغه ما بين خمس وثلاثين سنة إلى أربعين‏.‏

والحكم والحكمة مترادفان، وهو‏:‏ علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح واجتناب ضده‏.‏ وأريد به هنا النبوءة كما في قوله تعالى في ذكر داود وسليمان عليهما السّلام ‏{‏وكلاً آتينا حكماً وعلماً‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ والمراد بالعلم علم زائد على النبوءة‏.‏

وتنكير علماً‏}‏ للنوعية، أو للتعظيم‏.‏ والمراد‏:‏ علم تعبير الرؤيا، كما سيأتي في قوله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏ذلكما ممّا علّمني ربي‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقال فخر الدين‏:‏ الحكم‏:‏ الحكمةُ العملية لأنها حكمٌ على هدى النفس‏.‏ والعلمُ‏:‏ الحكمةُ النظرية‏.‏

والقول في وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ كالقول في نظيره، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

وفي ذكر المحسنين‏}‏ إيماء إلى أنّ إحسانه هو سبب جزائه بتلك النعمة‏.‏

وفي هذا الذي دبّره الله تعالى تصريح بآية من الآيات التي كانت في يوسف عليه السّلام وإخوته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 29‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

عطف قصة على قصة، فلا يلزم أن تكون هذه القصة حاصلة في الوجود بعد التي قبلها‏.‏ وقد كان هذا الحادث قبل إيتائه النبوءة لأن إيتاء النبوءة غلب أن يكون في سن الأربعين‏.‏ والأظهر أنه أوتي النبوءة والرسالة بعد دخول أهله إلى مصر وبعد وفاة أبيه‏.‏ وقد تعرضت الآيات لتقرير ثبات يوسف عليه السّلام على العفاف والوفاء وكرم الخلق‏.‏

فالمراودة المقتضية تكرير المحاولة بصيغة المفاعلة، والمفاعلة مستعملة في التكرير‏.‏ وقيل‏:‏ المفاعلة تقديرية بأن اعتبر العمل من جانب والممانعة من الجانب الآخر من العمل بمنزلة مقابلة العمل بمثله‏.‏ والمراودة‏:‏ مشتقة من راد يرود، إذا جاء وذهب‏.‏ شبه حال المحاول أحداً على فعل شيء مكرراً ذلك‏.‏ بحال من يذهب ويجيء في المعاودة إلى الشيء المذهوب عنه، فأطلق راود بمعنى حاول‏.‏

و ‏{‏عن‏}‏ للمجاوزة، أي راودته مباعدة له عن نفسه، أي بأن يجعل نفسه لها‏.‏ والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، قاله ابن عطية، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه‏.‏

وأما تعديته ب ‏(‏على‏)‏ فذلك إلى الشيء المطلوب حصوله‏.‏ ووقع في قول أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم يراود عمه أبا طالب على الإسلام‏:‏ وفي حديث الإسلاء «فقال له موسى‏:‏ قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه»‏.‏

والتعبير عن امرأة العزيز بطريق الموصولية في قوله‏:‏ ‏{‏التي هو في بيتها‏}‏ لقصد ما تؤذن به الصلة من تقرير عصمة يوسف عليه السّلام لأن كونه في بيتها من شأنه أن يطوّعه لمرادها‏.‏

و ‏{‏بيتها‏}‏ بيت سكناها الذي تبيت فيه‏.‏ فمعنى ‏{‏هو في بيتها‏}‏ أنه كان حينئذٍ في البيت الذي هي به، ويجوز أن يكون المراد بالبيت‏:‏ المنزل كله، وهو قصر العزيز‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ ربة البيت، أي زوجة صاحب الدار ويكون معنى ‏{‏هو في بيتها‏}‏ أنه من جملة أتباع ذلك المنزل‏.‏

وغلق الأبواب‏:‏ جَعْل كل باب سادّاً للفرجة التي هو بها‏.‏

وتضعيف ‏{‏غلّقت‏}‏ لإفادة شدة الفعل وقوته، أي أغلقت إغلاقاً محكماً‏.‏

والأبواب‏:‏ جمع باب‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا عليهم الباب‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وهَيتَ‏}‏ اسم فعل أمر بمعنى بَادرْ‏.‏ قيل أصلها من اللغة الحَوْرانية، وهي نبطية‏.‏ وقيل‏:‏ هي من اللغة العبرانية‏.‏

واللام في ‏{‏لك‏}‏ لزيادة بيان المقصود بالخطاب، كما في قولهم‏:‏ سقياً لك وشكراً لك‏.‏ وأصله‏:‏ هيتَك‏.‏ ويظهر أنها طلبت منه أمراً كان غير بدع في قصورهم بأن تستمتع المرأة بعبدها كما يستمتع الرجل بأمته، ولذلك لم تتقدم إليه من قبل بترغيب بل ابتدأته بالتمكين من نفسها‏.‏

وسيأتي لهذا ما يزيده بياناً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً‏}‏‏.‏

وفي ‏{‏هيت‏}‏ لغات‏.‏ قَرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر بكسر الهاء وفتح المثناة الفوقية‏.‏ وقرأه ابن كثير بفتح الهاء وسكون التحتية وضم الفوقية‏.‏ وقرأه الباقون بفتح الهاء وسكون التحتية وضم التاء الفوقية، والفتحة والضمة حركتا بناء‏.‏

و ‏{‏مَعاذ‏}‏ مصدر أضيف إلى اسم الجلالة إضافة المصدر إلى معموله‏.‏ وأصله‏:‏ أعوذ عَوذاً بالله، أي أعتصم به مما تحاولين‏.‏ وسيأتي بيانه عند قوله‏:‏ ‏{‏قال معاذ الله أن نأخذ‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 79‏]‏ في هذه السورة‏.‏

و ‏(‏إنّ‏)‏ مفيدة تعليل ما أفاده معاذ الله‏}‏ من الامتناع والاعتصام منه بالله المقتضي أن الله أمر بذلك الاعتصام‏.‏

وضمير ‏{‏إنه‏}‏ يجوز أن يعود إلى اسم الجلالة، ويكون ‏{‏ربي‏}‏ بمعنى خالقي‏.‏ ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام وهو زوجها الذي لا يرضى بأن يمسها غيره، فهو معلوم بدلالة العرف، ويكون ‏{‏ربي‏}‏ بمعنى سيدي ومالكي‏.‏

وهذا من الكلام الموجّه توجيهاً بليغاً حكي به كلام يوسف عليه السّلام إمّا لأن يوسف عليه السّلام أتى بمثل هذا التركيب في لغة القِبط، وإما لأنه أتى بتركيبين عُذرين لامتناعه فحكاهما القرآن بطريقة الإيجاز والتوجيه‏.‏

وأياً ما كان فالكلام تعليل لامتناعه وتعريض بها في خيانة عهدها‏.‏

وفي هذا الكلام عبرة عظيمة من العفاف والتقوى وعصمة الأنبياء قبل النبوءة من الكبائر‏.‏

وذُكِرَ وصف الرب على الاحتمالين لما يؤذن به من وجوب طاعته وشكره على نعمة الإيجاد بالنسبة إلى الله، ونعمة التربية بالنسبة لمولاه العزيز‏.‏

وأكدَ ذلك بوصفه بجملة ‏{‏أحسن مثواي‏}‏، أي جعل آخرتي حسنى، إذ أنقذني من الهلاك، أو أكرم كفالتي‏.‏ وتقدم آنفاً تفسير المثوى‏.‏

وجملة ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ تعليل ثان للامتناع‏.‏ والضمير المجعول اسماً ل ‏(‏إن‏)‏ ضميرُ الشأن يفيد أهمية الجملة المجعولة خبراً عنه لأنها موعظة جامعة‏.‏ وأشار إلى أن إجابتها لما راودته ظلم، لأن فيها ظلم كليهما نفسه بارتكاب معصية مما اتفقت الأديان على أنها كبيرة، وظلم سيده الذي آمنه على بينه وآمنها على نفسها إذ اتخذها زوجاً وأحصنها‏.‏

والهم‏:‏ العزم على الفعل‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهمّوا بما لم ينالوا‏}‏ في سورة براءة ‏(‏74‏)‏‏.‏ وأكد همّها ب ‏{‏قد‏}‏ ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزماً محققاً‏.‏

وجملة ‏{‏ولقد همت به‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏ والمقصود‏:‏ أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة‏.‏ والمقصود من ذكر هَمّها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم‏.‏

وجملة ‏{‏وهَمّ بها لولا أن رأى برهان ربه‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ولقد همت به‏}‏ كلها‏.‏ وليست معطوفة على جملة ‏{‏همت‏}‏ التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام، لأنه لما أردفت جملة ‏{‏وهمّ بها‏}‏ بجملة شرط ‏{‏لولا‏}‏ المتمحض لكونه من أحوال يوسف عليه السّلام وحْده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها‏.‏

فالتقدير‏:‏ ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به‏.‏ ولم يقرن الجواب باللاّم التي يكثر اقتران جواب ‏{‏لولا‏}‏ بها لأنه ليس لازماً ولأنه لمّا قُدم على ‏{‏لولا‏}‏ كُره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط، فيحسن الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏ولقد همت به‏}‏ ليظهر معنى الابتداء بجملة ‏{‏وهَمّ بها‏}‏ واضحاً‏.‏ وبذلك يظهر أن يوسف عليه السّلام لم يخالطه همّ بامرأة العزيز لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله‏:‏ ‏{‏ولقد همّت به وهمّ بها‏}‏ الآية قال أبو عبيدة‏:‏ هذا على التقديم والتأخير، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط، كأنه قال‏:‏ ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها‏.‏

وطعن في هذا التأويل الطبري بأن جواب ‏{‏لولا‏}‏ لا يتقدم عليها‏.‏ ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب ‏{‏لولا‏}‏، على أنه قد يجعل المذكور قبل ‏{‏لولا‏}‏ دليلاً للجواب والجواب محذوفاً لدلالة ما قبل ‏{‏لولا‏}‏ عليه‏.‏ ولا مفرّ من ذلك على كل تقدير فإن ‏{‏لولا‏}‏ وشرطها تقييد لقوله‏:‏ ‏{‏وهمّ بها‏}‏ على جميع التأويلات، فما يقدّر من الجواب يقدّر على جميع التأويلات‏.‏

وقال جماعة‏:‏ هَمّ يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكفّ على ذلك لما رأى برهان ربه‏.‏ قاله ابن عباس، وقتادة، وابن أبي مليكة، وثعْلب‏.‏ وبيان هذا أنه انصرف عمّا همّ به بحفظ الله أو بعصمته، والهمّ بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوءة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوءة، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف‏.‏ وقال جماعة‏:‏ هَمّ يوسف وأخذ في التهيّؤ لذلك فرأى برهاناً صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك‏.‏ وهذا قول السديّ، ورواية عن ابن عباس‏.‏ وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله‏.‏

وقد خبط صاحب «الكشاف» في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجْبرة، وهو يعني الأشاعرة، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التّأويلات ‏(‏رمتني بدائها وانسلت‏)‏ ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف عليه السّلام قتلَه والقتلُ أشد‏.‏

والرؤية‏:‏ هنا عِلمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر‏.‏

والبرهان‏:‏ الحجة‏.‏ وهذا البرهان من جملته صرفهُ عن الهمّ بها، ولولا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهمّ بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفّر دواعي الهمّ من حسنها، ورغبتها فيه، واغتباط أمثاله بطاعتها، والقرب منها، ودواعي الشباب المسولة لذلك، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهمّ بها دون شيء آخر‏.‏

واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية قبّحت له هذا الفعل، وقيل‏:‏ هو وحي إلهي، وقيل‏:‏ حفظ إلهي، وقيل‏:‏ مشاهدات تمثلت له‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء‏}‏ إلى شيء مفهوم مما قبله بتضمنه قوله‏:‏ ‏{‏رأى برهان ربّه‏}‏، وهو رأي البرهان، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء‏.‏

والصرف‏:‏ نقل الشيء من مكان إلى مكان، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه‏.‏ عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئاً‏.‏ والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه‏.‏

والسوء‏:‏ القبيح، وهو خيانة من ائتمنه‏.‏ والفحشاء‏:‏ المعصية، وهي الزنى‏.‏ وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يأمركم بالسوء والفحشاء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏169‏)‏‏.‏ ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما‏.‏

وجملة ‏{‏إنه من عبادنا المخلصين‏}‏ تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاء الله إياه في هذه الشدة على النفس‏.‏

قرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف ‏{‏المخلَصين‏}‏ بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم‏.‏ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله‏.‏ ومعنى التعليل على القراءتين واحد‏.‏

والاستباق‏:‏ افتعال من السبْق‏.‏ وتقدم آنفاً، وهو هنا إشارة إلى تكلفهما السبق، أي أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب‏.‏

وانتصب ‏{‏الباب‏}‏ على نزع الخافض‏.‏ وأصله‏:‏ واستبقا إلى الباب، مثل ‏{‏واختار موسى قومَه سبعين رجلاً‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 155‏]‏، أي من قومه، أو على تضمين استبقا‏}‏ معنى ابتدرا‏.‏

والتعريف في ‏(‏الباب‏)‏ تعريف الجنس إذ كانت عدة أبواب مغلقة‏.‏ وذلك أن يوسف عليه السّلام فرّ من مراودتها إلى الباب يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب لتمنعه من فتحه‏.‏

وجملة ‏{‏وقدّت قميصه‏}‏ في موضع الحال‏.‏ و‏{‏قدت‏}‏ أي قطعت، أي قطعت منه قداً، وذلك قبل الاستباق لا محالة‏.‏ لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف عليه السّلام أنها راودته، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف عليه السّلام سبقها مسرعاً إلى الباب، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة‏.‏ وكان قطع القميص من دبر لأنه كان مولياً عنها معْرضاً فأمسكته منه لرده عن إعراضه‏.‏

وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة ‏{‏استبقا الباب وقَدت قميصه‏}‏‏.‏

وصادف أن ألفيا سيدها، أي زوجها، وهو العزيز، عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي‏.‏ وإطلاق السيد على الزوج قيل‏:‏ إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذٍ، كانوا يدعون الزوج سيداً‏.‏ والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملاً في عادة العرب، فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 76‏]‏‏.‏ ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالباً‏.‏ وقد علم من الكلام أن يوسف عليه السّلام فتح الأبواب التي غَلّقتها زليخا باباً باباً حتى بلغ الخارجي، كل ذلك في حال استبَاقهما، وهو إيجاز‏.‏

والإلفاء‏:‏ وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه، فالأكثر أن يكون مفاجئاً، أو حاصلاً عن جهل بأول حصول، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 170‏]‏‏.‏

وجملة قالت ما جزاء‏}‏ الخ مستأنفة بيانياً، لأن السامع يسأل‏:‏ ماذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة‏.‏

وابتدرته بالكلام إمعاناً في البهتان بحيث لم تتلعثم، تخيل له أنها على الحق، وأفرغت الكلام في قالب كلي ليأخذ صيغة القانون، وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها فلا يسع المخاطب إلا الإقرار لها‏.‏ ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف عليه السّلام مانعة له من عقابه، فأفرغت كلامها في قالب كلي‏.‏ وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها، وأن تخيف يوسف عليه السّلام من كيدها لئلا يمتنع منها مرة أخرى‏.‏

ورددت يوسف عليه السّلام بين صنفين من العقاب، وهما‏:‏ السجن، أي الحبس‏.‏ وكان الحبس عقاباً قديماً في ذلك العصر، واستمر إلى زمن موسى عليه السّلام، فقد قال فرعون لموسى عليه السّلام‏:‏ ‏{‏لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وأما العذاب فهو أنواع، وهو عقاب أقدمُ في اصطلاح البشر‏.‏ ومنه الضرب والإيلام بالنار وبقطع الأعضاء‏.‏ وسيأتي ذكر السجن في هذه السورة مراراً‏.‏

وجملة قال هي راودتني عن نفسي‏}‏ من قول يوسف عليه السّلام، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة مع كلامها‏.‏ ومخالفة التعبير بين ‏{‏أن يسجن أو عذابٌ‏}‏ دون أن يقول‏:‏ إلا السجنُ أو عذاب، لأن لفظ السجن يطلق على البيت الذي يوضع فيه المسجون ويطلق على مصدر سجن، فقوله‏:‏ ‏{‏أن يسجن‏}‏ أوضح في تسلط معنى الفعل عليه‏.‏

وتقديم المبتدأ على خبره الذي هو فعل يفيد القصر، وهو قصر قلب للرد عليها‏.‏ وكان مع العزيز رجل من أهل امرأته، وهو الذي شهد وكان فطناً عارفاً بوجوه الدلالة‏.‏

وسمي قوله شهادة لأنه يؤول إلى إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف عليه السّلام على سيدته أو دحضه‏.‏ وهذا من القضاء بالقرينة البينة لأنها لو كانت أمسكت ثوبه لأجل القبض عليه لعقابه لكان ذلك في حال استقباله له إياها فإذا أراد الانفلات منها تخرق قميصه من قُبُل، وبالعكس إن كان إمساكه في حال فرار وإعراض‏.‏ ولا شك أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوع تمزيق القميص تحاول أن تجعله حجة على أنها أمسكته لتعاقبه، ولولا ذلك ما خطر ببال الشاهد أن تمزيقاً وقع وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص‏.‏ والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها فأراد أن يقيم دليلاً على صدقها فوقع عكس ذلك كرامة ليوسف عليه السّلام‏.‏

وجملة ‏{‏إن كان قميصه‏}‏ مبينة لفعل ‏{‏شهد‏}‏‏.‏

وزيادة ‏{‏وهو من الكاذبين‏}‏ بعد ‏{‏فصدقت‏}‏، وزيادة ‏{‏وهو من الصادقين‏}‏ بعد ‏{‏فكذبت‏}‏ تأكيد لزيادة تقرير الحق كما هو شأن الأحكام‏.‏

وأدوات الشرط لا تدل على أكثر من الربط والتسبب بين مضمون شرطها ومضمون جوابها من دون تقييد باستقبال ولا مضي‏.‏ فمعنى ‏{‏إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت‏}‏ وما بعدها‏:‏ أنه إن كان ذلك حصل في الماضي فقد حصل صدقها في الماضي‏.‏

والذي رأى قميصه قدّ من دبر وقال‏:‏ إنه من كيدكن، هو العزيز لا محالة‏.‏ وقد استبان لديه براءة يوسف عليه السّلام من الاعتداء على المرأة فاكتفى بلوم زوجه بأن ادّعاءها عليه من كيد النساء؛ فضمير جمع الإناث خطاب لها فدخل فيه من هن من صنفها بتنزيلهن منزلة الحواضر‏.‏

والكيد‏:‏ فعل شيء في صورة غير المقصودة للتوصل إلى مقصود‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كيدي متينٌ‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏183‏)‏‏.‏

ثم أمر يوسفَ عليه السّلام بالإعراض عما رمتْه به، أي عدم مؤاخذتها بذلك، وبالكف عن إعادة الخوض فيه‏.‏ وأمر زوجه بالاستغفار من ذنبها، أي في اتهامها يوسف عليه السّلام بالجرأة والاعتداء عليها‏.‏

قال المفسرون‏:‏ وكان العزيز قليل الغيرة‏.‏ وقيل‏:‏ كان حليماً عاقلاً‏.‏ ولعله كان مولعاً بها، أو كانت شبهة المِلك تخفف مؤاخذة المرأة بمراودة مملوكها‏.‏ وهو الذي يؤذن به حال مراودتها يوسف عليه السّلام حين بادرته بقولها‏:‏ ‏{‏هِيتَ لك‏}‏ كما تقدم آنفاً‏.‏

والخاطئ‏:‏ فاعل الخطيئة، وهي الجريمة‏.‏ وجَعَلَها من زمرة الذين خَطِئوا تخفيفاً في مؤاخذتها‏.‏ وصيغة جمع المذكر تغليب‏.‏

وجملة ‏{‏يوسف أعرض عن هذا‏}‏ من قول العزيز إذ هو صاحب الحكم‏.‏

وجملة ‏{‏واستغفري لذنبك‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يوسف أعرض‏}‏ في كلام العزيز عطف أمر على أمر والمأمور مختلف‏.‏ وكاف المؤنثة المخاطبة متعين أنه خطاب لامرأة العزيز، فالعزيز بعد أن خاطبها بأن ما دبّرته هو من كيد النساء وجه الخطاب إلى يوسف عليه السّلام بالنداء ثم أعاد الخطاب إلى المرأة‏.‏

وهذا الأسلوب من الخطاب يسمى بالإقبال، وقد يسمى بالالتفات بالمعنى اللغوي عند الالتفات البلاغي، وهو عزيز في الكلام البليغ‏.‏ ومنه قول الجَرمي من طي من شعراء الحماسة‏:‏

إخَالكَ مُوعدي ببني جفَيْف *** وهالةَ إنني أنْهَاككِ هَالا

قال المرزوقي في «شرح الحماسة»‏:‏ والعرب تجمع في الخطاب والإخبار بين عدة ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم أو أحسنهم سماعاً وأخصّهم بالحال‏.‏